الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُدِيمَ الذِّكْرَ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَانِ , وَأَنْ يَكُونَ فِي حَالِ ذِكْرِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ وَأَتَمِّهَا , مُتَطَهِّرًا مِنْ الْحَدَثَيْنِ , خَاشِعًا حَاضِرَ الْقَلْبِ , كَأَنَّك تَرَى مَذْكُورَك وَتُخَاطِبُهُ , فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك . قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ " . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الذِّكْرِ لِمُحْدِثٍ سَوَاءٌ كَانَ حَدَثًا أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ , وَكَذَا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم , بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ الذِّكْرَ لِلْمُحْدِثِ مُسْتَدِلًّا بِمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ " مَرَّ رَجُلٌ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ . وَبِمَا رَوَى أَبُو غِذَاء وَغَيْرُهُ عَنْ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ الْقُرَشِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ ثُمَّ اعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَالَ إنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى إلَّا عَلَى طُهْرٍ أَوْ قَالَ عَلَى طَهَارَةٍ " إسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
وَأَنْ يَكُونَ عَلَى الدَّوَامِ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ وَكُفَّ عَنْ العورى لِسَانَك وَلْيَكُنْ دَوَامًا بِذِكْرِ اللَّهِ يَا صَاحِبِي نَدِي (وَكُفَّ) أَيْ ادْفَعْ وَاصْرِفْ (عَنْ) الْمَقَالَةِ وَالْكَلِمَةِ (العورى) بِالْقَصْرِ لِضَرُورَةِ الْوَزْنِ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْعَوْرَاءُ الْكَلِمَةُ أَوْ الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ , انْتَهَى . وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها يَتَوَضَّأُ أَحَدُكُمْ مِنْ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَلَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الْعَوْرَاءِ يَقُولُهَا . قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ الْكَلِمَةِ الْقَبِيحَةِ الزَّائِغَةِ عَنْ الرُّشْدِ (لِسَانَك) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ غِذَاء (وَلْيَكُنْ) اللَّامُ لِلْأَمْرِ وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ بِهَا وَاسْمُ يَكُنْ يَعُودُ عَلَى اللِّسَانِ وَ (دَوَامًا) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ وَلْيَكُنْ لِسَانُك عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ فِي كُلِّ أَحْيَانِك وشئونك إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ (بِذِكْرِ اللَّهِ) تَعَالَى مُتَعَلِّقٌ " بِنَدِي " (يَا صَاحِبِي) السَّامِعَ لِنِظَامِي وَالْمُمْتَثِلَ لِكَلَامِي (نَدِي) أَيْ رَطْبًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ خَبَرُ يَكُنْ , وَإِنَّمَا وَقَفَ عَلَيْهِ بِالسُّكُونِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُسَكِّنُ الْيَاءَ فِي النَّصْبِ . قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ ضَرُورَاتِ الشِّعْرِ ; لِأَنَّهُ حَمَلَ حَالَةَ النَّصْبِ عَلَى حَالَتَيْ الرَّفْعِ وَالْجَرِّ . وَمُقْتَضَى كَلَامِ الأشموني فِي شَرْحِ الْأَلْفِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ لَا ضَرُورَةٌ . وَكَلَامُ الْمُبَرِّدِ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ ضَرُورَةٌ , وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الْمَجْنُونِ قَيْسِ بْنِ الْمُلَوَّحِ: وَلَوْ أَنَّ وَاشٍ بِالْيَمَامَةِ دَارُهُ وَدَارِي بِأَعْلَى حَضْرَمَوْتَ اهْتَدَى لِيَا قُلْت: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةِ مَجْنُونِ عَامِرٍ وَهُوَ قَيْسُ بْنُ الْمُلَوَّحِ الْمَذْكُورِ , تُوُفِّيَ رحمه الله سَنَةَ سَبْعِينَ وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ , وَهَذِهِ الْقَصِيدَةُ طَوِيلَةٌ جِدًّا وَفِيهَا يَقُولُ: أَلَّا أَيُّهَا الرَّكْبُ اليمانون عَرِّجُوا عَلَيْنَا فَقَدْ أَمْسَى هَوَانَا يَمَانِيَا يَمِينًا إذَا كَانَتْ يَمِينًا فَإِنْ تَكُنْ شِمَالًا يُنَازِعُنِي الْهَوَى مِنْ شماليا أُصَلِّي فَلَا أَدْرِي إذَا مَا ذَكَرْتهَا أَثْنَتَيْنِ صَلَّيْت الضُّحَى أَمْ ثَمَانِيَا أُرَانِي إذَا صَلَّيْت يَمَّمْت نَحْوَهَا بِوَجْهِي وَلَوْ كَانَ الْمُصَلَّى وَرَائِيَا وَمَا بِي إشْرَاكٌ وَلَكِنَّ حُبَّهَا كَمِثْلِ الشَّجَا غِذَاء الطَّبِيبَ الْمُدَاوِيَا وَأَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِي أُحَدِّثُ عَنْك النَّفْسَ بِاللَّيْلِ خَالِيَا خَلِيلَيَّ لَا وَاَللَّهِ لَا أَمْلِكُ الَّذِي قَضَى اللَّهُ فِي لَيْلَى وَلَا مَا قَضَى لِيَا قَضَاهَا لِغَيْرِي وَابْتَلَانِي بِحُبِّهَا فَهَلَّا بِشَيْءٍ غَيْرِ لَيْلَى ابتلانيا وَلَوْ أَنَّ وَاشٍ بِالْيَمَامَةِ دَارُهُ وَدَارِي بِأَعْلَى حَضْرَمَوْتَ اهْتَدَى لِيَا وَمَاذَا لَهُمْ لَا أَحْسَنَ اللَّهُ حَالَهُمْ مِنْ الْحَظِّ فِي تَصْرِيمِ لَيْلَى حياليا وَالشَّاهِدُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ وَاشٍ , فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ وَاشِيًا ; لِأَنَّ الْفَتْحَةَ تَظْهَرُ عَلَى الْمَنْقُوصِ , تَقُولُ رَأَيْت قَاضِيًا وَلَكِنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْمَرْفُوعِ وَالْمَجْرُورِ , فَإِذَا وَقَفَ عَلَيْهِ قَالَ وَلَوْ أَنَّ وَاشِي بِالْيَاءِ مِثْلَ قَوْلِ النَّاظِمِ نَدِي , فَنَدِي مَنْصُوبٌ بِفَتْحَةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الْيَاءِ لِإِجْرَاءِ حَالَةِ النَّصْبِ مَجْرَى حَالَتَيْ الرَّفْعِ وَالْجَرِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ النَّاظِمُ لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ غِذَاء وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ رضي الله عنه " أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ - أَيْ أَتَعَلَّقُ - بِهِ قَالَ: لَا يَزَالُ لِسَانُك رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ " . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مَالِكِ بْنِ غِذَاء وَلَفْظُهُ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ لَهُمْ " إنَّ آخِرَ كَلَامٍ فَارَقْت عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قُلْت أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُك رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ " وَرَوَاهُ غِذَاء وَاللَّفْظُ لَهُ والبزار إلَّا أَنَّهُ قَالَ: أَخْبِرْنِي بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَقْرَبِهَا إلَى اللَّهِ . وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ أَبِي غِذَاء قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " مَرَرْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي , بِرَجُلٍ مُغَيَّبٍ فِي نُورِ الْعَرْشِ , قُلْت مَنْ هَذَا مَلَكٌ؟ قِيلَ لَا , قُلْت نَبِيٌّ؟ قِيلَ لَا , قُلْت مَنْ هُوَ؟ قَالَ هَذَا رَجُلٌ كَانَ فِي الدُّنْيَا لِسَانُهُ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ وَلَمْ يَسْتَسِبَّ لِوَالِدَيْهِ قَطُّ " رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا هَكَذَا مُرْسَلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . . وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ كَفَّ اللِّسَانِ عَنْ الْعَوْرَاءِ خَشِيَ أَنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ , فَدَفَعَ هَذَا الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ:
كُلِّهَا لِتَشْهَدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَصِّنْ عَنْ الفحشا الْجَوَارِحَ كُلَّهَا تَكُنْ لَك فِي يَوْمِ الجزا خَيْرَ شُهَّدِ (وَحَصِّنْ) بِتَشْدِيدِ الصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مَنْعٌ (عَنْ) جَمِيعِ (الفحشا) بِالْقَصْرِ ضَرُورَةً مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ , وَكُلِّ مَا اشْتَدَّ قُبْحُهُ مِنْ الذُّنُوبِ , وَكُلِّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ , وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ فِي الزِّنَا وَاللِّوَاطِ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ} وَالْفَحْشَاءُ الْبُخْلُ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ . وَمُرَادُ النَّاظِمِ كُلُّ قَبِيحٍ نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ فَكُفَّ وَحَصِّنْ (الْجَوَارِحَ) جَمْعُ جَارِحَةٍ (كُلَّهَا) وَهِيَ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَاللِّسَانُ وَالْبَطْنُ وَالْفَرْجُ وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ , فَإِنْ أَنْتَ حَصَّنْتهَا عَنْ الْفَوَاحِشِ (تَكُنْ) الْجَوَارِحُ الْمَذْكُورَةُ (لَك) أَيُّهَا الْأَخُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ فِيهَا المحصنها عَنْ كُلِّ مَا يَشِينُهَا (فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ) الَّذِي هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ بِمَا عَمِلَ مِنْ الْمَلِيحِ وَالْقَبِيحِ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّك أَحَدًا (خَيْرَ شُهَّدِ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ مُشَدَّدَةً جَمْعُ شَاهِدٍ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ " كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ , فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ , قَالَ مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَيَقُولُ: يَا رَبُّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنْ الظُّلْمِ , يَقُولُ بَلَى , فَيَقُولُ إنِّي لَا أُجِيزُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي شَاهِدًا إلَّا مِنِّي , فَيَقُولُ كَفَى بِنَفْسِك الْيَوْمَ عَلَيْك حَسِيبًا وَالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا , قَالَ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ انْطِقِي فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ , ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ فَيَقُولُ بُعْدًا لَكِنْ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْت أُنَاضِلُ " أَيْ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ يَعْنِي أُجَادِلُ وَأُخَاصِمُ وَأُدَافِعُ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ عَمِلَ بِالْجَوَارِحِ مَكْرُوهًا لَمْ تَشْهَدْ عَلَيْهِ إلَّا بِخَيْرِ أَعْمَالِهِ وَسَدِيدِ أَفْعَالِهِ وَطَيِّبِ أَقْوَالِهِ , فَهِيَ حِينَئِذٍ خَيْرُ شُهُودٍ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ . . وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ} ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ حَثَّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ فِي أَوْقَاتِهَا فَقَالَ:
وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ بِوَقْتِهَا وَخُذْ بِنَصِيبٍ فِي الدُّجَى مِنْ تَهَجُّد (وَحَافِظْ) أَيْ وَاظِبْ (عَلَى فِعْلِ) أَيْ أَدَاءِ (الْفُرُوضِ) الْمَفْرُوضَةِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ (بِ) أَوَّلِ (وَقْتِهَا) لَكِنَّ مُرَادَ النَّاظِمِ رحمه الله تعالى الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَةُ . قَالَ تَعَالَى وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ " سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا , قُلْت ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ , قُلْت ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ اسْتَزَدْته لَزَادَنِي " . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ سَمِعْته قَالَ: أَفْضَلُ الْعَمَلِ الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا , وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ , وَالْجِهَادُ " وَرُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ . وَرَوَى مَالِكٌ وَأَبُو غِذَاء غِذَاء وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ غِذَاء بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ " أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , وَمَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ , وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ " . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ " وَلَفْظُ مُسْلِمٍ " بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ " . وَرَوَاهُ أَبُو غِذَاء غِذَاء بِلَفْظِ " لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ " . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ " بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ " . وَابْنُ غِذَاء وَلَفْظُهُ " بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ " . وَعَنْ غِذَاء رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ " رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو غِذَاء غِذَاء وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَابْنُ غِذَاء وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ وَلَا نَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مِنْ الْمَذْهَبِ كُفْرُ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى يَتَضَايَقَ وَقْتُ الثَّانِيَةِ عَنْهَا وَلَوْ كَسَلًا وَتَهَاوُنًا بِشَرْطِ الدِّعَايَةِ مِنْ إمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ . وَعِنْد غِذَاء مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا لَا تُعْتَبَرُ الدِّعَايَةُ وَأَنَّهُ يُقْتَلُ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا كُفْرًا وَيُصْنَعُ بِهِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ مِنْ مُوَارَاةِ جُثَّتِهِ , وَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُكَفَّنُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ فِي قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ . وَعِنْدَ غِذَاء لَا غِذَاء جُثَّتُهُ بَلْ يُلْقَى عَلَى الْمَزَابِلِ وَلَا كَرَامَةَ . وَلَا مَعْنَى لِكَثْرَةِ الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ مَعَ شُهْرَتِهِ . وَقَدْ سُئِلْت عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَجَبْت عَنْهَا فِي جُزْءٍ لَطِيفٍ . وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: جَاءَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبْلٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنه أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ فَرْضٍ وَاحِدٍ مُتَعَمِّدًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا عَنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ , وَلَا نَعْلَمُ لِهَؤُلَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا . قَالَ الْحَافِظُ غِذَاء: وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى تَكْفِيرِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا لِتَرْكِهَا حَتَّى خَرَجَ جَمِيعُ وَقْتِهَا , مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبْلٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ , وَمِنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ: الْإِمَامُ أَحُمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ و إسْحَاقُ بْنُ غِذَاء و عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَإِبْرَاهِيمُ غِذَاء وَالْحَكَمُ بْنُ غِذَاء وَأَيُّوبُ السختياني وَأَبُو غِذَاء غِذَاء وَأَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ , انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .
(وَخُذْ) أَيُّهَا الْأَخُ الصَّادِقُ , وَالْخِلُّ الْمُوَافِقُ (بِنَصِيبٍ) وَافِرٍ , وَسَهْمٍ صَالِحٍ غَيْرِ قَاصِرٍ (فِي الدُّجَى) أَيْ فِي الظَّلَامِ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: دَجَا اللَّيْلُ دَجْوًا وَدُجُوًّا أَظْلَمَ كأدجى وَتَدَجَّى وادجوجى , وَلَيْلَةٌ دَاجِيَةٌ , ودياجي اللَّيْلِ حَنَادِسُهُ كَأَنَّهَا جَمْعُ ديجاة انْتَهَى (مِنْ تَهَجُّدٍ): قَالَ عُلَمَاؤُنَا: التَّهَجُّدُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ النَّوْمِ . وَالنَّاشِئَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ رَقْدَةٍ , وَصَلَاةُ اللَّيْلِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ , فَهِيَ مَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ , وَهِيَ سُنَّةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا , وَأَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ , قَدْ وَرَدَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ , وَتَظَافَرَتْ بِالْحَثِّ عَلَيْهَا الْآثَارُ وَأَفْضَلُ اللَّيْلِ نِصْفُهُ الْأَخِيرِ , وَأَفْضَلُهُ ثُلُثُهُ الْأَوَّلِ , وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ أَفْضَلُ اللَّيْلِ الثُّلُثُ بَعْدَ النِّصْفِ كَمَا هُوَ نَصُّ الْإِمَامِ رضي الله عنه . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ , وَأَبُو غِذَاء , وَالتِّرْمِذِيُّ , غِذَاء , وَابْن غِذَاء فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ , وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ " وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ , غِذَاء بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ , وَالْحَاكِمُ , وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو خطأ1 G4 عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " فِي الْجَنَّةِ غُرْفَةٌ يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا , وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا , فَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ , وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ , وَبَاتَ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ " وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ غِذَاء وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا سُمِعَ مِنْ كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ , وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ , وَصِلُوا الْأَرْحَامَ , وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ , تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ " , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غِذَاء رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ صَلَاةُ غِذَاء , وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ غِذَاء , كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ , وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا " . وَعَنْ أَبِي غِذَاء الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ , وَقُرْبَةٌ إلَى رَبِّكُمْ , ومكفرة لِلسَّيِّئَاتِ , ومنهاة عَنْ الْإِثْمِ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ مِنْ جَامِعِهِ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي التَّهَجُّدِ وَابْنُ غِذَاء فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ , وَقَالَ الْحَاكِمُ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ . قُلْت: وَكَاتِبُ اللَّيْثِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ , كَانَ ابْنُ مَعِينٍ يُوَثِّقُهُ . وَقَالَ غِذَاء لَيْسَ بِثِقَةٍ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: سَمِعْت ابْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: أَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَرَأَ هَذِهِ الْكُتُبَ عَلَى اللَّيْثِ وَأَجَازَهَا لَهُ . قَالَ: وَسَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: كَانَ أَوَّلُ أَمْرِهِ مُتَمَاسِكًا ثُمَّ فَسَدَ بِآخِرِهِ . وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبٍ: ثِقَةٌ مَأْمُونٌ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: صَدُوقٌ أَمِينٌ مَا عَلِمْت , وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هُوَ عِنْدِي مُسْتَقِيمُ الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ يَقَعُ فِي أَسَانِيدِهِ وَمُتُونِهِ غَلَطٌ وَلَا يُعْتَمَدُ , وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ , وَمَقْرَبَةٌ لَكُمْ إلَى رَبِّكُمْ , ومكفرة لِلسَّيِّئَاتِ , ومنهاة عَنْ الْإِثْمِ , وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ " رَوَاهُ غِذَاء فِي الْكَبِيرِ , وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ جَامِعِهِ . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ يُوجِبُ صِحَّةَ الْجَسَدِ وَيَطْرُدُ عَنْهُ الدَّاءَ . . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: فَضْلُ صَلَاةِ اللَّيْلِ عَلَى صَلَاةِ النَّهَارِ كَفَضْلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ . رَوَاهُ غِذَاء عَنْهُ مَرْفُوعًا . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَالْمَحْفُوظُ وَقْفُهُ . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ غِذَاء رضي الله عنه: رَكْعَةٌ بِاللَّيْلِ خَيْرٌ مِنْ عَشْرِ رَكَعَاتٍ بِالنَّهَارِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا . وَإِنَّمَا فُضِّلَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ عَلَى صَلَاةِ النَّهَارِ ; لِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي الْإِسْرَارِ وَأَقْرَبُ إلَى الْإِخْلَاصِ . وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَجْتَهِدُونَ عَلَى إخْفَاءِ أَسْرَارِهِمْ . قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ زُوَّارُهُ فَيَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي لَا يَعْلَمُ بِهِ زُوَّارُهُ . وَكَانُوا يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَلَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ . وَكَانَ الرَّجُلُ يَنَامُ مَعَ امْرَأَتِهِ عَلَى وِسَادَةٍ فَيَبْكِي طُولَ لَيْلِهِ وَهِيَ لَا تَشْعُرُ ; وَلِأَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَشَقُّ عَلَى النُّفُوسِ , فَإِنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ مِنْ التَّعَبِ بِالنَّهَارِ . فَتَرْكُ النَّوْمِ مَعَ مَيْلِ النَّفْسِ إلَيْهِ مُجَاهَدَةٌ عَظِيمَةٌ . قَالَ بَعْضُهُمْ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مَا أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ . 1. وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ أَقْرَبُ إلَى التَّدَبُّرِ لِقَطْعِ الشَّوَاغِلِ عَنْ الْقَلْبِ بِاللَّيْلِ فَيَحْضُرُ الْقَلْبُ وَيَتَوَاطَأُ هُوَ وَاللِّسَانُ عَلَى الْفَهْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِهَذَا الْمَعْنَى أُمِرَ بِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ تَرْتِيلًا . وَلِهَذَا كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ منهاة عَنْ الْإِثْمِ كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ إنَّ فُلَانًا يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ , فَقَالَ سَتَنْهَاهُ صَلَاتُهُ وَمَا يَقُولُ " وَلِأَنَّ وَقْتَ التَّهَجُّدِ مِنْ اللَّيْلِ أَفْضَلُ أَوْقَاتِ التَّطَوُّعِ بِالصَّلَاةِ وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ , وَهُوَ وَقْتُ فَتْحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ وَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَاسْتِعْرَاضِ حَوَائِجِ السَّائِلِينَ . " خَاتِمَةٌ " قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: مَا نَسْتَطِيعُ قِيَامَ اللَّيْلِ , قَالَ: أَبْعَدَتْكُمْ ذُنُوبُكُمْ . وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: أَعْجَزَنَا قِيَامُ اللَّيْلِ , قَالَ: قَيَّدَتْكُمْ خَطَايَاكُمْ . وَقَالَ: إنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحْرَمُ بِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَذْنَبْت ذَنْبًا فَحُرِمْت بِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ . . وَقَالَ غِذَاء بْنُ عِيَاضٍ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: إذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ فَاعْلَمْ أَنَّك مَحْرُومٌ مُكَبَّلٌ كَبَّلَتْك خَطِيئَتُك . قَالَ فِي اللَّطَائِفِ: مَا يُؤَهِّلُ الْمُلُوكُ لِلْخَلْوَةِ بِهِمْ إلَّا مَنْ أَخْلَصَ فِي وُدِّهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ , فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُخَالَفَةِ فَلَا يُؤَهِّلُونَهُ وَلَا يَرْضَوْنَهُ لِذَلِكَ , وَلِذَا قِيلَ: (شِعْرٌ) اللَّيْلُ لِي وَلِأَحْبَابِي أُحَادِثُهُمْ قَدْ اصْطَفَيْتهمْ كَيْ يَسْمَعُوا وَيَعُوا لَهُمْ قُلُوبٌ بِأَسْرَارِي لَهَا مُلِئَتْ عَلَى وِدَادِي وَإِرْشَادِي لَهُمْ طُبِعُوا قَدْ أَثْمَرَتْ شَجَرَاتُ الْفَهْمِ عِنْدَهُمْ فَمَا جَنَوْا إذْ جَنَوْا مِمَّا بِهِ ارْتَفَعُوا سُرُّوا فَمَا وَهَنُوا عَجْزًا وَمَا ضَعُفُوا وَوَاصَلُوا حَبْلَ تَقْرِيبِي فَمَا انْقَطَعُوا وَفِي أَثَرٍ مَشْهُودٍ " كَذَبَ مَنْ ادَّعَى مَحَبَّتِي فَإِذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ نَامَ عَنِّي , أَلَيْسَ كُلُّ مُحِبٍّ يُحِبُّ خَلْوَةَ حَبِيبِهِ , فَهَا أَنَا ذَا مُطَّلِعٌ عَلَى أَحِبَّائِي إذَا جَنَّهُمْ اللَّيْلُ جَعَلْت أَبْصَارَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ , فَخَاطَبُونِي عَلَى الْمُشَاهَدَةِ , وَكَلَّمُونِي عَلَى حُضُورِي , غَدًا أُقِرُّ أَعْيُنَ أَحْبَابِي فِي جِنَانِي " . حِكَايَةٌ لَطِيفَةٌ وَفِي الْمَوْرِدِ الْعَذْبِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ: قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: عَصَفَتْ بِنَا الرِّيحُ عَلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ , فَإِذَا بِرَجُلٍ يَعْبُدُ صَنَمًا . فَقُلْنَا لَهُ أَيُّهَا الرَّجُلُ مَنْ تَعْبُدُ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى الصَّنَمِ , فَقُلْنَا لَهُ إنَّ مَعَنَا فِي الْمَرْكَبِ مَنْ يَعْمَلُ هَذَا , قَالَ فَأَنْتُمْ مَنْ تَعْبُدُونَ؟ قُلْنَا نَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى , قَالَ وَمَنْ هُوَ؟ قُلْنَا الَّذِي فِي السَّمَاءِ عَرْشُهُ , وَفِي الْأَرْضِ سُلْطَانُهُ , وَفِي الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ قَضَاؤُهُ . قَالَ كَيْفَ عَلِمْتُمْ هَذَا؟ قُلْنَا وَجَّهَ إلَيْنَا رَسُولًا أَعْلَمَنَا بِهِ , قَالَ فَمَا فَعَلَ الرَّسُولُ؟ قُلْنَا قَبَضَهُ اللَّهُ إلَيْهِ , قَالَ فَهَلْ تَرَكَ عِنْدَكُمْ عَلَامَةً؟ قُلْنَا: تَرَكَ عِنْدَنَا كِتَابَ الْمَلِكِ , قَالَ أَرُونِيهِ , فَأَتَيْنَاهُ بِالْمُصْحَفِ فَقَالَ مَا أَعْرِفُ هَذَا , فَقَرَأْنَا عَلَيْهِ سُورَةً وَهُوَ يَبْكِي , ثُمَّ قَالَ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ لَا يُعْصَى , فَأَسْلَمَ وَحَمَلْنَاهُ مَعَنَا وَعَلَّمْنَاهُ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَسُوَرًا مِنْ الْقُرْآنِ , فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ صَلَّيْنَا وَأَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا , فَقَالَ يَا قَوْمُ الْإِلَهُ الَّذِي دَلَلْتُمُونِي عَلَيْهِ أَيَنَامُ إذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ؟ قُلْنَا لَا يَا عَبْدَ اللَّهِ هُوَ حَيٌّ قَيُّومٌ لَا يَنَامُ , قَالَ بِئْسَ الْعَبِيدُ أَنْتُمْ تَنَامُونَ وَمَوْلَاكُمْ لَا يَنَامُ , فَعَجِبْنَا مِنْ كَلَامِهِ , فَلَمَّا قَدِمْنَا عبادان جَمَعْنَا لَهُ دَرَاهِمَ وَأَعْطَيْنَاهَا لَهُ وَقُلْنَا لَهُ أَنْفِقْهَا , قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَلَلْتُمُونِي عَلَى طَرِيقٍ لَمْ تَسْلُكُوهُ , أَنَا كُنْت فِي جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ أَعْبُدُ صَنَمًا مِنْ دُونِهِ فَلَمْ يُضَيِّعْنِي فَكَيْفَ الْآنَ وَقَدْ عَرَفْته , فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ لِي: إنَّهُ يُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ , فَجِئْته وَقُلْت أَلَكَ حَاجَةً؟ فَقَالَ قَدْ قَضَى حَوَائِجِي مَنْ عَرَّفْتنِي بِهِ . فَبَيْنَمَا أَنَا أُكَلِّمُهُ إذْ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْت فَرَأَيْت فِي الْمَنَامِ رَوْضَةً وَفِي الرَّوْضَةِ قُبَّةً وَفِيهَا سَرِيرٌ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ أَجْمَلُ مِنْ الشَّمْسِ تَقُولُ سَأَلْتُك بِاَللَّهِ عَجِّلْ عَلَيَّ بِهِ , فَانْتَبَهْت فَإِذَا بِهِ قَدْ مَاتَ رحمه الله تعالى , فَجَهَّزْته لِقَبْرِهِ ثُمَّ رَأَيْته فِي الْمَنَامِ فِي الْقُبَّةِ وَالْجَارِيَةُ إلَى جَانِبِهِ وَهُوَ يَتْلُو سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْتَتَحَ التَّهَجُّدُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ " إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ " رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو غِذَاء . وَفِي الْمُسْنَدِ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ " وَحِكْمَةُ تَخْفِيفِهِمَا الْمُبَادَرَةُ لِفَكِّ عُقَدِ الشَّيْطَانِ . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَطَوُّعَاتٌ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا , وَإِذَا فَاتَتْ يَقْضِيهَا , قَالَ فِي شَرْحِ أَوْرَادِ أَبِي غِذَاء: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ رَكَعَاتٌ مَعْلُومَاتٌ يَقْرَأُ فِيهَا حِزْبَهُ مِنْ الْقُرْآنِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ . قَالَ وَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ بِعَدَدِ التَّهَجُّدِ تَهَجُّدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً , ثُمَّ يُصَلِّي إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . . وَقَالَتْ أَيْضًا " وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . . وَفِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ أَنَّ قِيَامَهُ كَانَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً غَيْرَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ . . قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الهدى: فَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً . وَأَمَّا تَطْوِيلُ الرَّكَعَاتِ وَتَقْصِيرُهَا فَبِحَسَبِ النَّشَاطِ . قَالَ أَبُو غِذَاء: سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ رَكَعَاتٌ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعْلُومَةً فَإِذَا نَشِطَ طَوَّلَهَا وَإِذَا لَمْ يَنْشَطْ خَفَّفَهَا . ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ . . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ , يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ عَلَيْك لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ , فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ , فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ , وَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ , وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ " رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ . فَلِهَذَا قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى: .
وَنَادِ إذَا مَا قُمْت فِي اللَّيْلِ سَامِعًا قَرِيبًا مُجِيبًا بِالْفَوَاضِلِ يَبْتَدِي (وَنَادِ) أَيْ اُدْعُ (إذَا مَا قُمْت) أَيْ فِي وَقْتِ قِيَامِك وَمَا زَائِدَةٌ (فِي) جَوْفِ (اللَّيْلِ) وَهُوَ مَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي رَبًّا (سَامِعًا) مَفْعُولُ نَادِ فَإِنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ يَسْمَعُ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهُ , وَيُبْصِرُ تَضَرُّعَ مَنْ تَضَرَّعَ إلَيْهِ وَنَادَاهُ . فَيَسْمَعُ حَرَكَةَ النَّمْلَةِ الدَّهْمَاءِ , عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ , فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ . وَقَوْلُهُ (قَرِيبًا مُجِيبًا) وَصْفَانِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وَفَوَاضِلُ الْمَالِ مَا يَأْتِيك مِنْ غَلَّتِهِ وَمَرَافِقِهِ , وَلِذَا قَالُوا إذَا عَزَبَ الْمَالُ قَلَّتْ فَوَاضِلُهُ . قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ إذَا بَعُدَتْ الضَّيْعَةُ قَلَّ الْمَرْفِقُ مِنْهَا . وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (يَبْتَدِي) أَيْ يَبْتَدِي بِالْعَطَايَا الْجَسِيمَةِ ; وَالْمَوَاهِبِ الْوَسِيمَةِ ; مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ , فَكَيْفَ بَعْدَ السُّؤَالِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْصِبُ وَجْهَهُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَسْأَلَةٍ إلَّا أَعْطَاهَا إيَّاهُ إما أَنْ يُعَجِّلَهَا لَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ " . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ غِذَاء رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إحْدَى ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ , وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ , وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا . قَالُوا إذَنْ تَكْثُرُ . قَالَ اللَّهُ أَكْثَرُ " وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ غِذَاء بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه مَرْفُوعًا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ , وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ " أَوْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ " قَالَ الجراحي فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " اللَّهُ أَكْثَرُ " يَعْنِي أَكْثَرَ إجَابَةٍ . وَفِي رِوَايَةٍ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْصِبُ وَجْهَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَسْأَلُهُ إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهَا إمَّا أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ فِي الدُّنْيَا , وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَا لَمْ يُعَجِّلْ , قَالُوا وَمَا عَجَلَتُهُ؟ قَالَ يَقُولُ دَعَوْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا أُرَاهُ يُسْتَجَابُ لِي " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا . .
وَمُدَّ إلَيْهِ كَفَّ فَقْرِك ضَارِعًا بِقَلْبٍ مُنِيبٍ وَادْعُ تُعْطَ وَتَسْعَدْ (مُدَّ) أَيُّهَا الدَّاعِي فِي دُعَائِك (إلَيْهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (كَفَّ) أَيْ رَاحَتَك قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْكَفُّ الرَّاحَةُ مَعَ الْأَصَابِعِ , سُمِّيَتْ غِذَاء ; لِأَنَّهَا تَكُفُّ الْأَذَى عَنْ الْبَدَنِ , وَالْجَمْعُ كُفُوفٌ وَأَكُفٌّ , وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ مِنْ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ . وَقِيلَ مُذَكَّرَةٌ . يُرِيدُ النَّاظِمُ أَنَّك إذَا قُمْت فِي جَوْفِ اللَّيْلِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ وَقْتَ ذَلِكَ بَعْدَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ اللَّيْلِ , فَتَوَجَّهْ بِكُلِّيَّتِك إلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَمُدَّ إلَيْهِ كَفَّ (فَقْرِك) إلَيْهِ اللَّازِمَ لِوُجُودِك , فَلَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُك عَنْهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً . وَإِلَيْهِ أَشَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ غِذَاء بَرَّدَ اللَّهُ مَضْجَعَهُ فِي قَوْلِهِ: الْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي حَالَ كَوْنِك (ضَارِعًا) أَيْ مُتَذَلِّلًا مُبَالِغًا فِي السُّؤَالِ وَالرَّغْبَةِ , يُقَالُ ضَرَعَ يَضْرَعُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ , وَتَضَرَّعَ إذَا خَضَعَ وَذَلَّ . قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ . وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَتَضَرَّعْ إلَى اللَّهِ أَيْ ابْتَهِلْ . فِي الْقَامُوسِ: ضَرَعَ إلَيْهِ وَيُثَلَّثُ ضَرْعًا مُحَرَّكَةً وَضَرَاعَةً خَضَعَ وَذَلَّ وَاسْتَكَانَ , أَوْ كَفَرِحِ وَمَنَعَ تَذَلَّلَ فَهُوَ ضَارِعٌ , وَذَلَّلَ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " إنَّ اللَّهَ يَسْتَحْيِ أَنْ يَبْسُطَ الْعَبْدُ يَدَيْهِ يَسْأَلُهُ فِيهِمَا خَيْرًا فَيَرُدَّهُمَا خَائِبَتَيْنِ " رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا غِذَاء وَقَالَ صلى الله عليه وسلم " إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَأَسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا " رَوَاهُ أَبُو غِذَاء " وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ " . وَقَوْلُهُ (بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) مُتَعَلِّقٌ بِضَارِعٍ , أَيْ تَائِبٌ رَاجِعٌ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الذُّنُوبِ إلَى الطَّاعَاتِ , أَوْ مِنْ الْفِرَارِ مِنْهُ إلَيْهِ , يُقَالُ نَابَ إلَى اللَّهِ تَابَ كأناب (وَادْعُ) اللَّهَ سُبْحَانَهُ . وَبِنَبْغِي لَك أَنْ تَتَحَرَّى الْمَأْثُورَ عَنْ مَنْبَعِ الْهُدَى وَيَنْبُوعِ النُّورِ مَعَ مُرَاعَاةِ آدَابِ الدُّعَاءِ . فَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ (تُعْطَ) مَا سَأَلْته عَنْ خيري الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَتَسْعَدْ) سَعَادَةً لَا شَقَاوَةَ بَعْدَهَا بِتَضَرُّعِك لِمَوْلَاك وَقِيَامِك بِالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ الْفَاخِرَةِ , وَتَنْجُ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ وَأَلَمِ الْحِجَابِ , وَتُجَاوِرُ رَبًّا كَرِيمًا إذَا سُئِلَ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ أَجَابَ .
فَمِنْ الْمَأْثُورِ , عَنْ النَّبِيِّ الْمَبْرُورِ صلى الله عليه وسلم مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ , وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ , أَنْتَ الْحَقُّ , وَقَوْلُك الْحَقُّ , وَوَعْدُك الْحَقُّ , وَلِقَاؤُك حَقٌّ , وَالْجَنَّةُ حَقٌّ , وَالنَّارُ حَقٌّ , وَالسَّاعَةُ حَقٌّ , اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت , وَبِك آمَنْت , وَعَلَيْك تَوَكَّلْت , وَالِيك أَنَبْت , وَبِك خَاصَمْت , وَإِلَيْك حَاكَمْت , فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَأَخَّرْت , وَأَسْرَرْت وَأَعْلَنْت , أَنْتَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ " هَذَا لَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ غِذَاء . وَعَزَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ إلَى الصَّحِيحَيْنِ وَزَادَ غِذَاء " وَمَنْ فِيهِنَّ فِي الثَّلَاثِ و " مَا " فِي قَوْلِهِ مَا قَدَّمَتْ وَمَا أَخَّرْت " إلَخْ . وَزَادَ " أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " وَلَفْظُ الصَّحِيحَيْنِ قَالَ " كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبّنَا لَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ , وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ , وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ , وَلِقَاؤُك حَقٌّ , وَقَوْلُك حَقٌّ , وَالْجَنَّةُ حَقٌّ , وَالنَّارُ حَقٌّ , وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ , وَالسَّاعَةُ حَقٌّ , اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت , وَبِك آمَنْت , وَعَلَيْك تَوَكَّلْت , وَإِلَيْك أَنَبْت , وَبِك خَاصَمْت , وَإِلَيْك حَاكَمْت , فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت , وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت " . وَفِي رِوَايَةٍ " وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ وَلَا إلَهَ غَيْرُك " وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي غِذَاء وَغَيْرِهِمَا عَنْ غِذَاء بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ , الْحَمْدُ لِلَّهِ , وَسُبْحَانَ اللَّهِ , وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَاَللَّهُ أَكْبَرُ , وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ , ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اُسْتُجِيبَ لَهُ . فَإِنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ " قَوْلُهُ تَعَارَّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ اسْتَيْقَظَ . وَتَقَدَّمَ فِي أَدْعِيَةِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ مَا يَكْفِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
(فَوَائِدُ) الْأُولَى فِي ذِكْرِ بَعْضِ فَضَائِلِ الدُّعَاءِ . أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرَبِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الرَّخَاءِ " . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ وَابْنُ غِذَاء وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا رضي الله عنه مَرْفُوعًا " لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الدُّعَاءِ " . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا " الدُّعَاءُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ وَعِمَادُ الدِّينِ وَنُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ " وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيث عَلِيٍّ رضي الله عنه . وَأَخْرَجَ أَبُو غِذَاء وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ غِذَاء وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إنَّ اللَّهَ حَيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِ إذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ " الصِّفْرُ بِكَسْرِ الصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ هُوَ الْفَارِغُ . وَرَوَى نَحْوَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ غِذَاء وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ , وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ . وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَلْقَاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ غِذَاء رضي الله عنه مَرْفُوعًا " لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ . وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إلَّا الْبِرُّ . وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ غِذَاء " وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ مَرْفُوعًا مِنْ غَيْرِ " وَإِنَّ الرَّجُلَ " إلَخْ . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ , فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ , مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهِ , مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ " زَادَ ابْنُ غِذَاء فِيهِ: " حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ " فَلِذَلِكَ كَانُوا يُحِبُّونَ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى أَوَّلِهِ . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِلُ حَتَّى إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ نَزَلَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ " . وَفِي رِوَايَةٍ: " حَتَّى إذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ , يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: " هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَيُعْطَى؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ " وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا: " الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ . ثُمَّ قَرَأَ: وَقَالَ رَبُّكُمْ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَرَوَى غِذَاء وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ غِذَاء رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " تَرْكُ الدُّعَاءِ مَعْصِيَةٌ " وَتَقَدَّمَ فِي السَّلَامِ " أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنْ الدُّعَاءِ , وَأَبْخَلُ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ " وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ " وَرَوَاهُ ابْنُ غِذَاء بِلَفْظِ: " مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِ " وَفِي سَنَدِهِ أَبُو صَالِحٍ غِذَاء ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ .
(الثَّانِيَةُ) يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى بِدُعَائِهِ أَوْقَاتَ الْإِجَابَةِ وَأَحْوَالَهَا وَأَمَاكِنَهَا . كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ , وَيَوْمِ عَرَفَةَ , وَشَهْرِ رَمَضَانَ , وَلَيْلَةِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ , وَسَاعَة الْجُمُعَةِ , وَهِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الصَّلَاةَ , أَوْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ حَتَّى يُؤْمِنَّ . وَاخْتَارَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ . وَكَجَوْفِ اللَّيْلِ , وَنِصْفِهِ الثَّانِي وَثُلُثِهِ الْأَوَّلِ . أَيْ ثُلُثِ اللَّيْلِ بَعْدَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ , فَيَنَامُ النِّصْفَ الْأَوَّلَ وَيَقُومُ الثُّلُثَ ثُمَّ يَنَامُ السُّدُسَ , وَكَثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ , وَوَقْتِ السَّحَرِ , وَعِنْدَ النِّدَاءِ بِالصَّلَاةِ , وَبَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ , وَبَيْنَ الْحَيْعَلَتَيْنِ لِلْمُخْبِتِ الْمَكْرُوبِ , وَعِنْدَ الْإِقَامَةِ , وَعِنْدَ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَعِنْدَ الْتِحَامِ الْجِهَادِ , وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ , وَفِي السُّجُودِ , وَعَقِبَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ , لَا سِيَّمَا الْخَتْمُ , وَعِنْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ وَلَا الضَّالِّينَ , وَعِنْدَ شُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ , وَصِيَاحِ الدِّيَكَةِ , وَاجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ , وَفِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ , وَعِنْدَ تَغْمِيضِ الْمَيِّتِ , وَعِنْدَ نُزُولِ الْغَيْثِ . وَأَمَّا أَمَاكِنُ الْإِجَابَةِ فَهِيَ الْمَوَاضِعُ الْمُبَارَكَةُ , وَلَا أَعْلَمُ بِوُرُودِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَنْ الْمَعْصُومِ صلى الله عليه وسلم إلَّا مَا رَوَاهُ غِذَاء بِسَنَدٍ حَسَنٍ " أَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ " . قُلْت: إلَّا أَنْ يُقَالَ وَفِي مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ لَمَّا اسْتَجَابَ لَهُ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ . فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ سَعْدٍ عَنْ جَابِرٍ " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَتَى مَسْجِدَ الْأَحْزَابِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَقَامَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو عَلَيْهِمْ - أَيْ الْأَحْزَابِ - قَالَ جَابِرٌ فَعَرَفْنَا الْبِشْرَ فِي وَجْهِهِ صلى الله عليه وسلم " . وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مَوَاضِعَ اُسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ فِيهَا عَنْ تَجْرِبَةٍ . كَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ , وَبَيْنَ الجلالتين مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ , وَفِي الطَّوَافِ . وَعِنْدَ الْمُلْتَزَمِ وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ وَرُوِيَ مُسَلْسَلًا . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَقُومُ عَبْدٌ ثُمَّ يَعْنِي فِي الْمُلْتَزَمِ فَيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ إلَّا اسْتَجَابَ لَهُ , وَفِي دَاخِلِ الْبَيْتِ , وَعِنْدَ زَمْزَمَ , وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ , وَفِي الْمَسْعَى , وَخَلْفَ الْمَقَامِ , وَفِي عَرَفَاتٍ , وَالْمُزْدَلِفَةِ , وَمِنًى وَعِنْدَ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ . وَفِي أَمَاكِنَ أُخْرَى جَرَّبَهَا النَّاسُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
|